نظرية تطور ونشوء الدولة كما جاء في مقدمة ابن خلدون
- بقلم : سناء الزيود
أولا" لابد من التعرض لمفهوم التاريخ كما عرَفه ابن خلدون لإستيعاب المقصود من التطور والمراحل, فالتاريخ كماعرفه (ابن خلدون): « أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال» (المقدمة ص57).
قدم ابن خلدون شرحا" لمفهوم الدولة في كتابه ( تاريخ ابن خلدون ), حيث عرض مفهوم الدولة من منظورإجتماعي وتاريخي من خلال بحث مجموعة من القواعد المشتركة لمجموعة من الدول والأمم, فوصفها بأنَّها ( كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية، وهي أيضاً وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاَّ بها ).
نظر ابن خلدون للدولة على أنها كائن حي يولد وينمو ثم يهرم ليفنى فالدولة لها عمر مثل الكائن الحي وكما أوضح بأن الدولة تمر بأطوار ومراحل منذ نشأتها إلى فنائها, ففي الطور الأول يكون السلطان جديد العهد بالملك لذا فهو لا يستغني عن العصبية وإنَّما يعتمد عليها لإرساء قواعد ملكه فيكون الحكم في هذه المرحلة مشتركاً نوعاً ما بين الملك وبين قومه وعشيرته، ويتميز هذا الطور ببداوة المعيشة وبإنخفاض مستواها، فلم يعرف الغزاة الجدد بعد الترف ويشترك الجميع في الدفاع عن الدولة لوجود الشجاعة والقوة البدنية.
أما الطور الثاني فهو الانفراد بالملك، ويرى ابن خلدون أنَّ الانفراد بالسلطة ميل طبيعي وفطري لدى البشر ولذا فإنَّ السلطان عندما يرى ملكه قد استقر يعمل على قمع العصبية كما يعمل على الانفراد بالحكم واستبعاد أهل عصبيته من ممارسة الحكم، وعندئذ يتحول من رئيس عصبية إلى ملك, وقد يفعل ذلك أوَّل من أسَّس الدولة وقد لا يفعل، فلا تدخل الدولة في هذا الطور الثاني إلاَّ مع ثاني زعيم أو ثالث، ويتوقف ذلك على قوة صمود العصبية ويضطر السلطان إلى الاستعانة بالموالي للتغلب على أصحاب العصبية، أي أنَّه يبدأ في هذه المرحلة الاعتماد على جيش منظم من أجل المحافظة على المُلك.
وفي الطور الثالث وهو طور الفراغ والدعة يتم تحصيل ثمرات الملك وتخليد الآثار وبُعد الصيت، فالدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها، ويتفرغ السلطان لشؤون الجباية وإحصاء النفقات والقصد فيها، ولتخليد ملكه بأن يبني المباني العظيمة الشاهدة على عظمته، وفي هذه المرحلة يستمتع الجميع السلطان بمجده, وحاشيته بما يغدقه عليها السلطان.
والطور الرابع ووصفه بأنه طور القنوع والمسالمة, وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة قانعاً بما بناه أسلافه مقلداً لهم قدر ما يستطيع، والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة تجمد فلا شيء جديد يحدث وتغير يطرأ وكأن الدولة تنتظر بداية النهاية.
الطور الخامس وهو طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة في هذا الدور متلفا" لما جمعه أسلافه في سبيل الشهوات والملذات والكرم على بطانته، فيكون مخربا" لما كان سلفه يؤسسون، وهادماً لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور تدخل الدولة في طبيعة الهرم ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض.
ويخلص ابن خلدون بأن الدول تقوم على ركنين أساسيين وهما الجند والمال وبين العلاقة بينهما وبين الدولة, فالدولة في أولها تكون بدوية ويكون الإنفاق معقولاً وهناك إمعان في الجباية والإسراف، وإذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة، فإنَّ نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف وينتشر الإسراف بين الرعايا وتمتد أيديهم إلى أموال الدولة من جهة ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة فيضطر السلطان إلى مضاعفة الضرائب فيختل اقتصاد البلاد، ولكن الجباية مقدارها محدود، كما لا يستطيع رفع الضرائب إلى ما لا نهاية، ولذا يضطر إلى الاستغناء عن عدد من الجند حتى يوفر مرتباتهم فتضعف حمايته وتتجاسر عليه الدول المجاورة أو القبائل التي ما تزال محتفظة بعصبيته.
* المراجع:
مقدمة ابن خلدون : الباب الثالث في الدولة والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانية
مقدمة ابن خلدون – تحقيق: الدكتور علي عبد الواحد وافي _ القاهرة 1968
عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر الجزء السابع ص 379 ـ 380
محمد عابد الجابري، العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي (دار الثقافة، الدار البيضاء 1971).
تعليقات
إرسال تعليق