في رحيل غرناطة الحرف
لروحها التي عادت فتية الآن، للكلمات التي انسابت من قلمها كالسلسبيل، لحارة البيازين التي عرفتنا عليها، ولأرواح شهداء الطنطورية التي جعلت من موتهم مشهدًا لن ينساه التاريخ، لثورة مصر التي عاشتها حتى وهي على سرير المرض، لكل الليالي التي بقينا فيها مستقيظين حتى نكمل أحد رواياتها، لكل صباح كان حرف رضوى سيده .. سندعو كثيرًا ونبكي أكثر لأن غرناطة اللغة والكلم ودعتنا اليوم.
سنحتاج إلى عصور كثيرة حتى تنجب لنا مصر رضوى أخرى، لن يكتب أحد مثلما كتبت رضوى، بروح أم مصرية حنونة وشقاوة فتاة عشرينية ورتابة سيدة تجاوزت الأربعين ووطنية قومية صلبة وتدين راهبة ناعمة، مصر قد حازت الكثير عندما ولدت رضوى، وخسرت الكثير عندما ودعتنا اليوم، وكأن الحزن قد كتب على هذا البلد ببراءة المخلوع ووفاة رضوى، كأن مصر تحاول أن تقول لنا إن منسوب الجمال في هذا العالم آخذ بالانتقاص وأن الخير لا يحظى بأفضل أيامه الآن وأن أدب مصر سيقيم المآتم اليوم ولكنها ستكون دون عويل، لأن رضوى لم تحب الصراخ يومًا ولأن السماء لن تقبل أن نفسد احتفالها اليوم باستقبال ابنتها.
كتبت رضوى عن التجربة الأدبية لغسان كنفاني، واليوم أشعر أن من واجبي أن أكتب عن تجربتها الأدبية، فالقارئ لأعمال رضوى يستطيع أن يلاحظ منذ الوهلة الأولى غزارة علمها واتساع ثقافتها، فعندما كتبت عن مذبحة الطنطورية قامت بتأريخ حقبة كاملة من النضال الفلسطيني كما لم يفعل أحد، وأكثر القراء يظنون عند قراءة هذا العمل أن رضوى من أصول فلسطينية لأن حرفها متأصل في سرد الأحداث وكأنما عاشتها هي بنفسها أو تعرض لها أحد من المقربين لها حتى استطاعت أن تكتب عن المجزرة بهذا القرب، أما عندما تقرأ ثلاثية غرناطة ترى رضوى وهي تفتح باب بيتها صباحًا في حارة البيازين وتجلس على كرسي من قش وتحكي لنا حكاية مريمة الأندلسية.
بهذا المقطع أختتمت رضوى آخر أعمالها "أثقل من رضوى" وهو ما أجده مثاليًا يليق بها وبوصفها، رضوى أجادت اختتام عملها هذا وأجادت أيضًا صياغة رحيلها، وأكاد أراها وهي تزيح عن نفسها ثقل الجسد وتحظى أخيرًا بالخفة التي حلمت بها دائمًا:
"أستاذة في التنكر أم شخصية مركبة الخلق تجتمع فيها النقائض والأضداد؟ بعد أيام أتمّ السابعة والستين، قضيت أربعة عقود منها أدرس في الجامعة ... صار بعض ممن درستهم أساتذة لهم تلاميذ ... لا ياسيدي القارئ، لا استعرض إنجازاتي قبل أن أنهي الكتاب، بل أحاول الإجابة على السؤال الذي طرحته في أول الفقرة، لن تنتبه أنني في السابعة والستين، لا لأن الشيخوخة لا تبدو بعد على ملامحي، ولا لأنك لو طرقت بابي الآن ستفتح لك امرأة صغيرة الحجم نسبيًا ترتدي ملابس بسيطة، شعرها صبياني قصير وإن كان أبيضه يغلب أسوده، يكاد يغيبه، ليس لهذه الأسباب فحسب بل لأن المرأة، وأعني رضوى، ما إن تجد الشارع خاليًا نسبيًا، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى، المرة بعد المرة في محاولة لتوصيلها لأبعد نقطة ممكنة، تفعل كأي صبي بقال في العاشرة من عمره يعوضه ركل الحجر الصغير عن ملل رحلاته التي لا تنتهي لتسليم الطلبات إلى المنازل، وعن رغبته في اللعب غير المتاح لأنه يعمل طول اليوم، تأخذها اللعبة، تستهويها فلا تتوقف إلا حين تنتبه أن أحد المارة يحدق فيها باندهاش".
سنحتاج إلى عصور كثيرة حتى تنجب لنا مصر رضوى أخرى، لن يكتب أحد مثلما كتبت رضوى، بروح أم مصرية حنونة وشقاوة فتاة عشرينية ورتابة سيدة تجاوزت الأربعين ووطنية قومية صلبة وتدين راهبة ناعمة، مصر قد حازت الكثير عندما ولدت رضوى، وخسرت الكثير عندما ودعتنا اليوم، وكأن الحزن قد كتب على هذا البلد ببراءة المخلوع ووفاة رضوى، كأن مصر تحاول أن تقول لنا إن منسوب الجمال في هذا العالم آخذ بالانتقاص وأن الخير لا يحظى بأفضل أيامه الآن وأن أدب مصر سيقيم المآتم اليوم ولكنها ستكون دون عويل، لأن رضوى لم تحب الصراخ يومًا ولأن السماء لن تقبل أن نفسد احتفالها اليوم باستقبال ابنتها.
كتبت رضوى عن التجربة الأدبية لغسان كنفاني، واليوم أشعر أن من واجبي أن أكتب عن تجربتها الأدبية، فالقارئ لأعمال رضوى يستطيع أن يلاحظ منذ الوهلة الأولى غزارة علمها واتساع ثقافتها، فعندما كتبت عن مذبحة الطنطورية قامت بتأريخ حقبة كاملة من النضال الفلسطيني كما لم يفعل أحد، وأكثر القراء يظنون عند قراءة هذا العمل أن رضوى من أصول فلسطينية لأن حرفها متأصل في سرد الأحداث وكأنما عاشتها هي بنفسها أو تعرض لها أحد من المقربين لها حتى استطاعت أن تكتب عن المجزرة بهذا القرب، أما عندما تقرأ ثلاثية غرناطة ترى رضوى وهي تفتح باب بيتها صباحًا في حارة البيازين وتجلس على كرسي من قش وتحكي لنا حكاية مريمة الأندلسية.
بهذا المقطع أختتمت رضوى آخر أعمالها "أثقل من رضوى" وهو ما أجده مثاليًا يليق بها وبوصفها، رضوى أجادت اختتام عملها هذا وأجادت أيضًا صياغة رحيلها، وأكاد أراها وهي تزيح عن نفسها ثقل الجسد وتحظى أخيرًا بالخفة التي حلمت بها دائمًا:
"أستاذة في التنكر أم شخصية مركبة الخلق تجتمع فيها النقائض والأضداد؟ بعد أيام أتمّ السابعة والستين، قضيت أربعة عقود منها أدرس في الجامعة ... صار بعض ممن درستهم أساتذة لهم تلاميذ ... لا ياسيدي القارئ، لا استعرض إنجازاتي قبل أن أنهي الكتاب، بل أحاول الإجابة على السؤال الذي طرحته في أول الفقرة، لن تنتبه أنني في السابعة والستين، لا لأن الشيخوخة لا تبدو بعد على ملامحي، ولا لأنك لو طرقت بابي الآن ستفتح لك امرأة صغيرة الحجم نسبيًا ترتدي ملابس بسيطة، شعرها صبياني قصير وإن كان أبيضه يغلب أسوده، يكاد يغيبه، ليس لهذه الأسباب فحسب بل لأن المرأة، وأعني رضوى، ما إن تجد الشارع خاليًا نسبيًا، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى، المرة بعد المرة في محاولة لتوصيلها لأبعد نقطة ممكنة، تفعل كأي صبي بقال في العاشرة من عمره يعوضه ركل الحجر الصغير عن ملل رحلاته التي لا تنتهي لتسليم الطلبات إلى المنازل، وعن رغبته في اللعب غير المتاح لأنه يعمل طول اليوم، تأخذها اللعبة، تستهويها فلا تتوقف إلا حين تنتبه أن أحد المارة يحدق فيها باندهاش".
تعليقات
إرسال تعليق