google-site-verification: googleaca67b174e67a505.html الحب في زمن الكوليرا : أن يموت الحب في العشرين و يحيا في السبعين

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع [LastPost]

الحب في زمن الكوليرا : أن يموت الحب في العشرين و يحيا في السبعين

الحب في زمن الكوليرا غابرييل ماركبز  كتب للقراءة كتب علم النفس كتب ابراهيم الفقي كتب كتاب كليلة ودمنة كتبي كتب التوجيهي كتب مسموعة كتب ايمن العتوم كتب pdf كتب ينصح بها كتب وروايات روايات عالمية روايات حب روايات ايمن العتوم روايات غرام روايات pdf روايات عربية روايات يونانية مترجمة روايات يابانية روايات وقصص روايات وكتبأدب السجون أدب الدنيا والدين أدب الكاتب أدب الرحلات أدبيات أدب الامثال أدب الأطفال أدب المقاومة أدب الرسائل أدب وترفيه أدب وتراث أدب وشعر أدب وفن ادب وثقافةثقافة عامة ثقافة يونانية ثقافة وفن ثقافة وترفيه ثقافة وعلوم ثقافة و الترفيه تعليم الالكتروني تعليم الرسم تعليم اللغة التركية تعليم يوجا

الحب في زمن الكوليرا : أن يموت الحب في العشرين و يحيا في السبعين


"إن هذا الحب في كل زمان ومكان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت"
(غابرييل غارسيا ماركيز)
  
في أواخر القرن التاسع عشر، وفي إحدى المدن الساحلية الواقعة في منطقة الكاريبي، تعرف شاب اسمه فلورينتينو أريثا، وهو في الثامنة عشرة من عمره، على صبية في مقتبل العمر تُدعى فيرمينا داثا، كان فلورينتينو أريثا وقتها يعمل موظفا في وكالة البريد، ومن أكثر الشبان شهرة في وسطه الاجتماعي، وعلى الرغم من هزاله وعزلته فإن الفتيات كن يضربن قرعة سرية ليبقين معه، وكان يلعب ليبقى معهن حتى اليوم الذي تعرف فيه على فيرمينا داثا وانتهت براءته.

لقد رآها للمرة الأولى في عصر يوم كُلّف فيه بإيصال برقية إلى شخص بلا عنوان واضح اسمه لورينثو داثا، والد فيرمينا، وبعد الانتهاء من تسليم البرقية أدرك فلورينتينو أريثا أن هناك أحدا آخر في البيت، ولدى مروره مقابل حجرة الخياطة رأى عبر النافذة امرأة مسنّة وصبية تجلسان على مقعدين متجاورين، وكلتاهما تتابع القراءة من الكتاب ذاته الذي تحمله المرأة مفتوحا في حضنها، لكن الصبية رفعت نظرها لترى مَن الذي يمر عبر النافذة، وكانت هذه النظرة العابرة أصل كارثة حب لم تنتهِ بعد مرور نصف قرن من الزمان .  

- الحب في زمن الكوليرا.. قصة الوباء القاتل

رواية الحب في زمن الكوليرا (مواقع التواصل)
    
صدرت رواية "الحب في زمن الكوليرا" عام 1985، وأحدثت لحظة صدورها نقلة نوعية في النظر إلى العلاقات العاطفية داخل الأعمال الأدبية من كونها سلعة أدبية رخيصة الهدف منها إثارة مشاعر القراء، إلى قيمة أدبية فنية لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة، وبات قطاع كبير من النقاد يعتقدون مقدرة الروايات الغرامية على البقاء لفترة طويلة، واستطاعتها إحداث تأثير قوي في العلاقات العاطفية حينما تتناول الحب كقيمة عليا تسيطر على حياة الأفراد، وتصحبهم في رحلة العمر الطويلة من أجل الاستمتاع بسحر الحب وعذاباته.
ويحكي ماركيز في الرواية قصّة حب معقدة تنشأ بين رجل اسمه فلورينتينو أريثا، وامرأة تُدعى فيرمينا داثا منذ المراهقة وتستمر إلى ما بعد بلوغهما السبعين في حالة من الحب غير المعقول. وتسرد الرواية مجموعة من التغيرات الاجتماعية والسياسية والنفسية التي طرأت على حياتهما بسبب هذا الحب العنيف، إضافة إلى سرد تفاصيل الحرب الأهلية الدائرة في منطقة الكاريبي ونهر مجدولينا في قالب روائي شائق يجمع بين شجون العشق ولوعته، لعنة الحرب وقسوتها، جائحة وباء الكوليرا ووباء آخر قاتل اسمه الحب، قالب يكتشف معه القارئ أن الرواية التي بين يديه تحمل في داخلها وصفة سحرية للحب الأبدي، وتفاصيل دقيقة لتلك المنطقة من العالم.
تستمر الحكاية في بدايتها بطريقة عادية دون أية مفاجآت محتملة، حيث يعيش العاشقان تحت رحمة حب مثالي ومستقر لأعوام عديدة، يتبادلان خلالها الرسائل الغرامية الملتهبة، والورود الملونة، والوعود بالبقاء، ويتعاهدان على الزواج، إلى أن تحل عليهما اللعنة ويتحول حبهما بين ليلة وضحاها إلى جحيم لا يطاق. فبعد معرفة والد فيرمينا داثا بالأمر، قرر مغادرة المدينة إلى الأبد هروبا من العار الذي قد يلحق به، ومفكرا في العثور على زوج مناسب لابنته المراهقة التي حولها الحب إلى كائن متمرد.
     
هنا تأخذ القصة منحى آخر، وتنقلب الأحداث رأسا على عقب حينما تتزوج فيرمينا داثا بالدكتور خوفينال أوربينو، الطبيب اللامع الأكثر شهرة في المنطقة، ومن ثم تجبرها ظروفها الاجتماعية الجديدة، وضغوط والدها المتسلط، وقدسية الزواج الكاثوليكي، على تخطّي حبيبها عامل التلغراف المسكين في مشهد مأساوي وحزين. في غضون تلك الأحداث، يعمل العاشق المهزوم "فلورينتينو أريثا" بكد وجهد حتى يصنع له اسما لامعا ويكوّن ثروة مالية ضخمة تمكّنه من استعادة حبيبته التي أصبحت زوجة رجل آخر، وتعيش حياتها الخاصة برفقة زوجها وأبنائها مثلما يعيش هو برفقة والدته، ومثلما سيعيش وباء الحب القاتل بينهما إلى الأبد.
تتشابك أحداث الرواية وتتداخل بطريقة مشوقة، إلى أن يلتقي العاشقان أخيرا في جنازة موت الدكتور خوفينال أوربينو، زوج فيرمينا الذي مات تحت شجرة المانجا محاولا الإمساك ببغاء عديمة الحياء، وكان وقتها قد مر أكثر من نصف قرن من الزمان على آخر لقاء بينهما، فينتهز فلورينتينو أريثا الفرصة قائلا للمرأة التي مات زوجها للتو: "فيرمينا.. لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي وحبي الدائم". 
  

- الربّة المتوجة.. حكاية نظرة تحولت إلى حب


في قصة حب معقدة يأخذ فيها فلورينتينو أريثا دور العاشق الولهان، بينما تأخذ فيرمينا داثا دور الفتاة التي يمنعها والدها عن الحب، ويسد كل المنافذ والطرقات التي تؤدي إليه، يسرد لنا غابرييل غارسيا ماركيز في روايته ذائعة الصيت "الحب في زمن الكوليرا" قصة حب أقرب إلى الخيال، قصة لا يمكن لها أن تحدث إلا في منطقة الكاريبي حيث المكان الذي يتميز بنوعية خاصة من الحب، تلك النوعية التي لا تعترف بالقيود العمرية للعلاقات العاطفية، وتقف سدا منيعا أمام كل الظروف والعقبات التي تحول دونها. إنها تشعل نيران الحب في سن المراهقة، ويستمر لهيبها متقدا وحارقا مدى الحياة، فلا مكان للرجوع عن الحب بعد خوض غماره، ولا يمكن للضعفاء دخول مملكة الحب لأنها مملكة قاسية وصارمة. 
غابرييل غارسيا ماركيز (مواقع التواصل)
على خلاف قصص الحب التقليدية التي تضج بها أرفف المكتبات، فإن رواية "الحب في زمن الكوليرا" تسطر قصة حب مختلفة، قصة حب مشحونة بالمأساة، وقلة الحيلة، والتعلّق الذي لا ينتهي، تعلّق كلما شارف على نهايته تهب ريح الحب العاتية فتبقيه على الحافة، لا هو يسقط فينتهي، ولا هو يبقى فيستمر ويزدهر، تعلّق يضع الأبدية كأساس للعلاقات العاطفية، ويضع قانونا مفاده: لكي تُنهي علاقة حب هناك قاعدة واحدة فقط؛ وهي ألّا تبدأها من الأساس.
وقع فلورينتينو أريثا في حب فيرمينا داثا إثر نظرة عابرة، جعلته يتوّجها على الفور ملكة على مشاعره، ويمنحها لقب الربّة المتوجة، وهو اللقب الذي سيطلقه عليها في قلبه مدى الحياة. إن النظرة التي أسقطته في الحب لم تكن نظرة عادية من فتاة مراهقة، وإنما نظرة تحمل في طياتها الكثير من معاني الحرمان، والتوق إلى الحب، إنها نظرة مشحونة إلى آخرها بالتحدي والإصرار والاستعداد للتضحية ومواجهة القيم والأعراف المجتمعية التي تمنع الحب وتصوره كخطيئة كبرى تُوجب غضب الرب وتُنذر بهطول وابل من اللعنات. إن تلك النظرة أشعلت في قلب الاثنين حبًّا لا يمكن القضاء عليه، حبًّا خُلق ليبقيهما معلّقين ببعضهما بخيط عنكبوتي لنصف قرن من الزمان، فلا هو ينقطع فيريحهما من العذاب، ولا هو يشتد فيشتد معه الحب.

- الحب الممنوع.. والدك يرفض أن تصبحي عاشقة


يُمثّل لورينثو داثا، والد فيرمينا في الرواية، صورة المجتمع المحافظ الذي يرفض العلاقات الغرامية بين الجنسين ويراها خطيئة كبرى وذنبا لا يُغتفر، ويستغل ماركيز هذه الشخصية الروائية المحافظة ليناقش عبرها القيم الاجتماعية السائدة في منطقة الكاريبي خلال تلك الفترة وما يسود فيها من نظام أبوي متزمت يتمتع فيه الرجال بالسلطة المطلقة، سلطة تمكّنهم من التحكم بأي شيء حتى العواطف. ويظهر رفض المجتمع للعلاقات الغرامية بصورة واضحة في المشهد الذي تتجسس فيه إحدى الراهبات على التلميذات في المدرسة، وتكتشف الراهبة التي دخلت إلى الدرس بصمت أفعى أن فيرمينا داثا التي كانت تتظاهر بأنها تسجل ملاحظات على الدفتر كانت في الواقع تكتب رسالة حب.

وتتسبّب هذه الخطيئة في فصلها من المدرسة فيما بعد عندما ترفض الكشف عن هوية حبيبها السري أمام لجنة الانضباط، ولمّا علم والدها بالأمر اقتحم غرفة نومها وقام بتفتيشها بحثا عن دليل إدانة إلى أن وجد في الصندوق ذي القاع المزدوج رسائل ثلاث سنوات من الحب العنيف. هنا أحس الرجل المحافظ بالعار يتسلل إلى بيته، فما كان منه إلا أن ذهب إلى فلورينتينو أريثا وتحدث معه حديث رجل لرجل قائلا والحسرة تقتله: "الشيء الوحيد الذي أعتبره أسوأ من اعتلال الصحة هو سوء السمعة".  بهذا المقطع المشحون بالحسرة يضعنا ماركيز أمام لوحة مصغرة للمجتمع اللاتيني المحافظ الذي يرى في الحب دون غطاء اجتماعي أمرا يجلب البؤس والسمعة السيئة.   
ويستمر ماركيز في سرد صرامة الرجل اللاتيني في الحفاظ على عِرضه عن طريق إضفاء صور مأساوية وقاسية على حكايته، إذ لم يكتفِ لورينثو داثا بالبحث عن حبيب ابنته السري فقط، وإنما شرع في البحث عن الثقب الذي تسلل منه هذا الحب إلى فناء بيته، فاكتشف أن شقيقته اسكولاستيكا التي كانت ترافق فيرمينا إلى المدرسة على مدار سنوات طويلة كانت السبب وراء وقوعها في حب عامل التلغراف، الأمر الذي جعله يتخذ قراره النهائي بطرد شقيقته من البيت، حيث لم يسمح لها بنعمة الاعتذار، وإنما أجبرها على الإبحار دون استئناف في مركب إلى سان خوان دي لا ثييناغا، وهناك لاقت مصيرها في محجر صحي.
إن هذه القسوة في التعامل مع شقيقته لا تُقارن بتلك القسوة الموجودة في البناء العام للرواية، ففي كل صفحة نقرأها يخنقنا الحزن على مصير العاشقَين، ونكاد نفقد الأمل في رؤيتهما مجددا في مشهد رومانسي يخلو من القسوة، وتبقى الحقيقة الماثلة أمام القارئ أن المجتمع يرفض هذه النوعية من العلاقات ولا يتسامح مع مَن يدعمون العشاق ويتواطؤون معهم، وفي الوقت نفسه تجد في الرواية مشاهد متناقضة لعشاق آخرين يدعمهم المجتمع ويقف إلى جانبهم، إلا أن قَدَر فيرمينا داثا وفلورينتينو أريثا وضعهما في مواجهة الجميع. ويُضفي ماركيز على أحداث الرواية حالة من فقدان الأمل واليأس والذهول، فيقفز النص إلى الأمام ويعود إلى الخلف دون انضباط أو التزام، لكن الخط العام للرواية يبقى واضحا ويمكن تتبعه، ويتلخّص في أن هناك حبًّا مشتعلا بين شخصين، وأن هناك رجلا متزمتا وصارما يرفض هذا الحب.

- اختبار العواطف.. نصف قرن من الانتظار


  
من السطور الأولى للرواية يظن القارئ أن هناك علاقة معقدة ستنشأ بين فيرمينا داثا والدكتور خوفينال أوربينو زوجها، ذاك الطبيب اللامع الذي وقع في غرامها إثر تشخيص طبي خاطئ، لأن ماركيز يضع هذه العقدة في البداية ويستطرد في سرد تفاصيل العلاقة الزوجية التي تجمع الاثنين، ولكن مع الاستمرار في القراءة وطي الصفحات واحدة تلو الأخرى يدرك القارئ أن تلك البداية لم تكن سوى فخ سردي، وأن العلاقة الحقيقية لم تبدأ بعد.
يرى البعض أنه من غير المجدي الاستمرار في علاقة حب لا أمل فيها، كالعلاقة التي بين فلورينتينو أريثا وفيرمينا داثا، ذاك أن الحب قد يقتله الغياب الطويل الممتد لعشرات السنين. فما الذي يُبقي عاشقَين على الخط نفسه من الأمل لمدة تناهز نصف قرن من الزمان؟ وما الذي يجعل فلورينتينو أريثا يتعلّق بامرأة لا يعرف مكانها وعنوانها؟ امرأة لا يدري إن كانت ميتة، أم لا تزال على قيد الحياة، امرأة كأن الأرض انشقت وابتلعتها؟ يجيب ماركيز عن هذه الأسئلة المحيرة بحبكة روائية أقرب إلى الخيال، مستخدما واقعيته السحرية لينسج عبرها خيوطا رفيعة من الأمل تُبقي الوصال قائما كلما باعدت بينهما الظروف، وكلما تقدّم بهما العمر.
الحب كما يصوّره ماركيز في الرواية يدفع فلورينتينو أريثا نحو الجنون والمغامرة، ويُخضِعه للكثير من المخاطر والاختبارات المستمرة، ففي إحدى المرات فاجأته دورية عسكرية في مقبرة الفقراء وهو يقلق عفة الموتى باستفزازاته الغرامية بعزفه مقطعا موسيقيا أطلق عليه "الربة المتوجة"، وهو الاسم الذي يطلقه على فيرمينا داثا في قلبه. ولقد نجا بمعجزة من تحقيق أوّلي بتهمة أنه جاسوس يبعث الأخبار بإشارات ضوئية إلى السفن الليبرالية، فما كان منه إلا أن نفى ذلك قائلا: "أي جاسوس وأي لعنة.. أنا لست سوى عاشق بائس".
في هذه الرواية يحاول ماركيز التلاعب بالفضاء الزماني للنص، حيث تمر فترة نصف قرن من زواج فيرمينا داثا كأنها نصف دقيقة، فيما تتحول نصف الدقيقة إلى خمسين عاما يعيش خلالها فلورينتينو أريثا الانتظار والترقب. إن هذه الطريقة في التلاعب بالأحداث تجعل القارئ في حيرة من أمره، وتحفّزه على المواصلة واكتشاف المزيد من الألغاز، ليكتشف القارئ في النهاية أن اللغز الحقيقي لهذه الرواية ما هو إلا الانتظار، الانتظار لنصف قرن من الزمان.

- سكرتير العاشقين.. حينما يحوّلك الحب إلى كاتب


يحاول ماركيز في روايته إثبات حقيقة مفادها أن الحب قد يقلب حياة الإنسان رأسا على عقب، ويحيله من حاكم قوي إلى محكوم ضعيف، ومن بائع إلى مُشترٍ، ومن إنسان هادئ ومستقر إلى آخر تضج حياته بكل أنواع الصخب والدمار، ومن رجل لا يعرف شيئا عن الحب إلى مفكر عاطفي. ورغم ما يصيبه من ذاك الحب من جروح وآلام لا تنتهي فإنه يبقى معلّقا به بحبل متين لا ينقطع، ويظل متمسكا به بشتى الطرق، لأن تلك العلاقة المعقدة، مجهولة النتائج والعواقب، هي وحدها ما تُبقيه على قيد الحياة.

فبعد سنوات من الانقطاع عن فيرمينا داثا، أصبح تفكير فلورينتينو أريثا بها يتعاظم يوما بعد يوم لدرجة أنها أصبحت ترافقه أينما ذهب، وتحل عليه في أي مكان وزمان، فيراها سرابا في شوارع المدينة القديمة، وداخل أروقة المقاهي، وزقاق الكتبة العموميين، وداخل شركة الكاريبي للملاحة النهرية التي يعمل فيها بوظيفة كاتب. وفيما بعد، حين نقلوه لأداء أعمال أخرى كانت دواخله تفيض حبًّا لا يدري ما يفعل به، فراح يُهديه إلى العاشقين الذين لا يتقنون الكتابة.
في تلك المرحلة من حياته، انخرط فلورينتينو أريثا في كتابة رسائل حب مختلفة، لأشخاص مختلفين، وعشاق يتألمون فيطيّب جراحهم، وآخرين مقبلين على حب عاصف فيحذرهم، وعاشقين ضائعين فيقودهما إلى النور بخبرته، وبصفته سكرتيرا للعاشقين. كان يبعث الأمل في البائسين، والمحبطين، ويلوّن حياة العشاق برسائل حب تبعث على الجنون. هنا، يحكي لنا ماركيز قصة رجل يعيش تجربة حبه المستحيلة من خلال قصص الآخرين وتجاربهم، ويُعبّر عن حبه الضائع عبر كتابة الرسائل لغيره، المهم أن يفعل شيئا يُبقي حبه قائما ومشتعلا في داخله.
  

- الحب والشيخوخة.. أن يموت الحب في العشرين ويتوهج في السبعين


مصائب قوم عند قوم فوائد، هكذا استقبل فلورينتينو أريثا نبأ موت الدكتور خوفينال أوربينو زوج فيرمينا داثا، وأحس في تلك اللحظة بالأمل يتسرب إلى أوصاله بعد نصف قرن من فقدان الأمل والمعاناة، وأصبح يرى في خيالاته أن مسألة عودتهما إلى بعضهما مسألة وقت فقط. ولكن بعد تقدّمهما في السن يبدو أن هذه المسألة صعبة ومعقدة، فكيف يُحيي شخصان هرمان قصة حب انتهت منذ إحدى وخمسين سنة؟ هنا يستعمل ماركيز واقعيته السحرية ويُضفي على النّص سحرا يجعل مسألة توهج الحب في السبعين أمرا عاديا، وأكثر متعة مما هو عليه العشرين من العمر، فيجمع بين الاثنين مجددا، إلى أن تنتهي الرواية بمشهد العجوزين الهرمين يمخران البحر جيئة وذهابا في سفينة موبوءة بالحب.
وعن طريق أدواته السردية الفريدة، تلك التي تجمع ما بين الواقعي والسحري، الغريب والعجيب، يأخذنا ماركيز في رحلة نصية ممتعة يعرفنا خلالها على فلسفة جديدة في العلاقات الغرامية ترتكز على الأبدية كقاعدة أساسية، وتقوم على ثنائيات الضحك والبكاء، الحزن والفرح، الانتصار والهزيمة. ومن خلال الخط العام للرواية يثبت الكاتب بطريقة لا غبار عليها أن الحب مُمكن في كل الأزمنة، فلا المراهقة استطاعت الوقوف أمام جبروت حب فلورينتينو أريثا وسطوته، ولا الشيخوخة وقفت عائقا أما فيرمينا داثا ومنعتها من التمادي في عواطفها، إنه إذن شعور سحري لم يملك الاثنان حيلة سوى التماهي معه.
بهذه الطريقة، يضعنا ماركيز أمام قصة حب لا تعرف الفناء، قصة حب تتجدّد باستمرار، وتتواصل رغما عن القيود الاجتماعية والحياتية. ويقول الكاتب عن روايته: "إن هذا الحب في كل زمان ومكان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت". ففي علاقة حب مثل هذه، لا مكان للتراجع أو الاستسلام، فكل الطرق تؤدي إلى الحب، وكل المصائر رغم اختلافها فإنها في النهاية تقود إليه. نعم، يحترق القلب كمدا، لكن ربيع الحب الآتي سيُطفئه، تشتعل الروح شوقا وهياما، لكن في حلاوة الماضي، وكآبة الحاضر، وعناد المستقبل، أقدار تستحق الانتظار. مرت حياة العاشقَين بمنعطفات خطرة، وعقبات لا تنتهي، فراغ، ووجع، وآلام عجز العمر عن تحمّلها، وليس هناك من عمر آخر لمواصلة العطاء، لأن ذاك الحب يبدأ من الشيخوخة، ثم ينسج لنفسه ظروفا استثنائية تجاور الأبد.

يقول النّاقد المكسيكي إيمانويل كاربايو في تعليقه على الرواية إنه عندما قرأها في نسختها الأولى وجد نفسه أمام واحدة من أعظم الرّوايات في القرن العشرين. ويضيف النّاقد أن ماركيز بأعماله الرّوائية قد أقام إلى جانب روائيين آخرين أُسس وقواعد الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية من خلال تحليله العميق لواقع الإنسان الأميركيّ اللّاتيني ومعالجة الأساطير وتوظيفها بطريقة ذكية. 
"الحب في زمن الكوليرا" هي رواية تسكنها الحيرة  والجنون، هي ضرب من الخيال المنظم الذي يتجسّد أمامنا كحقيقة لا غبار عليها، نجد أنفسنا غارقين فيها منذ البداية وحتى النهاية. في هذه الرواية يبدو كل شيء وارد الحدوث، كل مستحيل في الحب يغدو مُمكنا في نظرنا، ونصبح على قناعة تامة بعد الانتهاء من قراءة الرواية أن النص الروائي الذي بين أيدينا هو قصة حقيقية لشخصين حقيقيين عاشا بعيدين عن بعضهما، لكنّ كلًّا منهما أحب الآخر بطريقة ما، وأن نهاية القصة ما كان لها أن تحدث بأيّ شكل آخر، وأنه لا فرق واضح بين داء الكوليرا وداء آخر اسمه الحب.

كاتب المقال : دفع الله حسن بشير
المصدر : الميدان

تعليقات

أدعمنا بالتبرع بمبلغ بسيط لنتمكن من تغطية التكاليف والاستمرار