لم يكن " انا مجنون لسبب وانت عاقل بلا سبب " عنواناً لمختارات شعرية فحسب للاديب العراقي الاوروبي "صلاح حسن " , وانما هو نبذة مختصرة أبدعها " حسن " بأيجاز عن حياته المجنونة مثله .
كلمات مركزة غزيرة المعنى والدقة حواها العنوان كقصائده الماطرة بالابداع والتي تتسم بالكثافة الشعرية والبلوغ السلس للمتلقي ، حيث تنساب بشفافية مرهفة في قوالب مضغوطة تجعل من النوع الادبي ( قصيدة النثر) الخاصة به لوحةً مشبعة بألوان تفيض بالواقعية تارة وبالسريالية والخيال تارة اخرى ، وبين كابوسية حانكة من زاوية وايروتيكية صاخبة بالجرأة والجنون من زاوية اخرى .
فهي تطرق مختلف ابواب الحياة الانسانية والاجتماعية والسياسية ومعاناة الانسان وقضايا وجوده وهمومه واختلاجات نفسه وما يعانيه .
ولو امعنّا النظر في كثير من اعماله الشعرية والنثرية من قصائد وروايات ومسرحيات لوجدناها تنطوي على دلالات تتجاوز حدودها الادبية حيث يعتبر البعض ان الادب في كينونته المحضة مواد جامدة فقط سما بها المبدعون تراجمة لما يلاقيه الانسان .
(ولكن الادب دليل ان الحياة لوحدها ليست كافية) - كما قال شاعر البرتغال العظيم فرناندو بيسوا .
ف " صلاح حسن " يحمل جعبةً من الاسعافات والعقاقير النفسية في طيات أعماله الادبية حيث معالجة ما تقاسيه النفس الانسانية على مر مراحل مختلفة وظروف شتى تتعدد آثارها وتبعاتها ،فهو النفس والنفس الاخرى ، والمريض والطبيب تارة ,وتارة هو الرجل الحلزون الذي يدور حول نفسه فقط ...وهو المسافر الذي لا يكل عن رحلاته ، واللاجئ المتعب من ويلات المنفى ، وهو الوطن في انسان .
وقد
يجد القارئ البعد السيكولوجي والفلسفي متقولباً في قلائد من الاعمال الادبية يفوح منها
الابداع الجذاب بأسلوب حداثوي تميزه مصداقية الذات الشاعرة والكاتبة ، ويمتزج في غياهبها
نتاج تجارب انسانية وسياسية بالجرأة الصارخة وبالعواطف الرقيقة وبالالم والمعاناة والجنون
في الوطن والمنفى والحياة الشخصية .
صلاح حسن بمهرجان في هولندا
اقتباسات من نصوص مختارة :
وجهي
سمكة عارية والبحر مدينة
وجهي
في الحائط ساعة مهملة
والزمن فقاعة ..
وجهي في المرآة نتوء
الرجل الحلزون /
لو قيض لي أن ابدأ
حياتي
من جديد
لاخترت
أن أكون حلزونا
وأعيش
في جسدي .
أينما
اذهب
أكون
في بيتي
وحين
اقف
يتلاشى
المكان .
لي زمن
خالص
ذكرياتي اصنعها بنفسي
وتاريخي
اكتبه بيدي .
لو قيض
لي أن ابدأ
حياتي
من جديد
لاخترت
أن أكون حلزونا
وأعيش
في جسدي .
جربت
أن أعيش كالآخرين
في بيت
صغير جميل
في وطن
صغير جميل
ولكن
الأرض ضاقت علي
لأنني
أردت أن أكون سيد نفسي .
منذ
ذلك الحين
بنيت
داخل نفسي بيتا
ودعوت
العالم كي يسكن فيه .
الهروب من العائلة /
لم تكن
فكرة سيئة
حين
حلمت ببيت وسكنته
لم تكن
فكرة سيئة
حين
حلمت بأمرأة وتزوجتها
لم تكن
فكرة سيئة
حين
رسمت اربعة اطفال وانجبتهم
لم تكن
ايضا فكرة سيئة
حين
رسمت بابا خلفيا للبيت
وهربت منه .
الرجل المجنون /
لاترتعبوا
ايها الناس
لست
رجلا مجنونا اومشردا
ولا
هذا الذي على رأسي
شعرا
مستعارا
لست
سوى شاعر غريب
وهذه
حقيبتي الرثة
فيها
قنينة من الخمر الرخيص
وقصيدة
جديدة
استطيع
ان اقرأها لكم
ان شئتم !
متقاعد/
وحيدا يهرم داخل جدران بيته الباردة .
بالملابس ذاتها يخرج كل يوم
لكي يطحن الوقت في شوارع المدينة .
القبعة ، المطرية ، وحقيبة صغيرة
فيها هويته وبطاقة التأمين الصحي
لكي يستدل عليه اذا سقط .
تكبر ملامحه بسرعة مذهلة ..
انفه ، اذناه ، فمه
ويبدو شعر اذنيه طويلا
مثل شعيرات انفه البيضاء
التي لا تطاق .
بعد نصف ساعة يعود الى بيته الفارغ
يشرب قدحا من الشاي
ثم يخرج مرة اخرى لكي يتمشى في الشوارع ذاتها .
يحدث احيانا ان يلتقي متقاعدا مثله
ويتبادلان القصص نفسها
ثم يفترقان كل الى عزلته .
فجأة يختفي المتقاعد من الشارع
دون ان يفتقده احد من الناس ..
ولكن حين تقف سيارة الاسعاف امام بيته
يعرف الاخرون انه اصبح جثة
ينبغي التخلص منها بأقصى سرعة ممكنة .
البيت القديم /
أريد أن أعود الى بيتي
بلا
ثياب ولا أمتعة
أريد
أن أعود إلى بيتي
بلا
ذكريات ولا أقنعة
بلا
أخوة أو أمهات
بلا
نساء ولا كتب قديمة .
هكذا
..
أعود
وحيدا
إلى
بيت ضيق
كتوابيت
الصغار
أغلق
الباب خلفي
وأنام
بلا أحلام ولا كوابيس
كشيء
لم يحدث أبدا .
أريد
أن أعود إلى بيتي الاول
بلا
ذنوب ولا معجزات
أحدق
في سقوفه التي تتساقط
منها
العصافير الصغيرة والافاعي .
أريد
أن أعود إلى حجرتي ..
على
أرضها الرخوة الجرداء
قميص
أزرق من مؤنة الشتاء
وعلى
جدارها الموحش صورة
لرجل
لم أقابله ذات يوم
ولكنه
على كل حال كهل حزين .
أريد
أن اعود إلى بيتي البعيد
بلا
خرائط أو رفاق
أخوض
في وحول الطريق ،
مبللا
برياح غريبة
ووجوه
غابرة
وحين
اصل
سوف
أغلق الباب خلفي
وأنام
بلا أحلام و كوابيس
كشيء
لم يحدث أبدا .
لم يعد
في مستطاعي أن أعود
إلى
بيتي القديم ..
اللصوص
سرقوا المفاتيح
وسوف
أقضي الليلة في العراء ،
في الكوابيس
أو الاحلام
وأنا
لا أريد أن أعيش
مرة
اخرى
في الاحلام
والكوابيس
لانها
تعيدني إلى حياتي ..
حياتي
التي ضاعت
بلا
سبب وجيه .
سأعود
إلى السجن
أو إلى
الحديقة العامة
في ساحة
الاندلس ..
ولكنني
أريد أن أعود إلى بيتي ..
سرق
اللصوص مفاتيحه في النهار
وتركوني
وحيدا أمام المارة ،
حقيبتي
معي مليئة بثياب قديمة .
ما نفع
هذه المفاتيح أذن ؟
لبيت
قديم بلا أشجار ولا إمرأة
أو كتب
قديمة ؟
لا أريد
أن أعود إلى بيتي القديم
لا مفاتيح
عندي ولا أخوة
أو أمهات
..
لا نساء
عندي ولا رفاق
لا خرائط
ولا وجوه غابرة .
ما نفع
هذه المفاتيح ؟
إنها
لبيت قديم
لم يعد
صالحا للاحلام ولا للكوابيس ..
لن أستطيع
بعد الان
أن أغلق
الباب خلفي ،
لن أستطيع
أن أنام ،
لانني
سوف أبقى
بلا
كوابيس أو أحلام .
ولد حسن في بابل/ العراق
وتخرج من اكاديمية الفنون الجميلة لجامعة بغداد وقد هاجر من العراق في تسعينيات
القرن الماضي الى اوروبا واستقر في هولندا .
وقد كُرم في العديد
من المهرجانات الاوروبية والدولية
وحصل على الكثير من
الجوائز بينها جائزة دينا الهولندية للشعر ،وجائزة الابداع ، وجائزة جواد الساعاتي
في ادب الرحلات وغيرها .
تعليقات
إرسال تعليق