الأدب في مواجهة التاريخ البشري :
يقول الكاتب المصري أحمد أمين في كتابه فيض الخاطر { و إقرأ تاريخ الأمم فهل ترى إلاّ تاريخا حربيا، حربا أيام الحرب و استعدادا للحرب أيام السلم، وإحصاء للجيوش و إحصاء للقتلى، و وصفا للخراب و تسجيلا لأنواع التنكيل}.
إن علاقة الأدب بالتاريخ علاقة تتجاوز حاجز الزمان فمنذ اكتشاف أولى أشكال الكتابة سارع الإنسان لتأريخ أعماله و إنجازاته، معتقداته وأفكاره و الظواهر التي شهدها إنطلاقا من هيرودتس إلى العلامة ابن خلدون إلى ابراهيم بن طالح بن عيسى و غيرهم...
لكن علاقة الأدب بالتاريخ تخطت بمراحل كونها نقل و تدوين فأصبحت دراسة و تفسيرا للأحداث، فأصبح الأدب بوصفه ضمير للبشرية تهديدا للغريزة الحيوانية في البشر التي لطالما حاولوا طمسها أحيانا و تلميعها أحيانا أخرى أو في أسو الحالات تبريرها. فالصراع بين الأدب و التاريخ البشري يشبه النزاع داخل الذات البشرية بين الخير و الشر. والسؤال يطرح نفسه هنا ما أسباب هذا الصراع؟ وما هي نتائجه؟.
إن الكتب وخاصة التاريخية منها شكلت عائقا أمام سلطات أرادت بناء حضارات على أعقاب حضارات أخرى مرتدية زي الطهارة و العفاف مصورة نفسها البطل المنتصر في كل معركة وحرب، متناسية بذلك أن الهزيمة أو الانتصار في الحرب أشياء نسبية و أن التاريخ لا يرحم و أن الحقيقة شمس حارقة يمكن تفاديها لكنها لن تختفي و تعود لتشرق بعد كل ظلام مهما طال. و بعبارة أخرى دون تنميق أو مجاز و فواصل الكتب فضحت باعتبارها نقلا لشهادات و رؤى و تجارب الإنسان، خلال ملاين السنين التي قضاها في الحروب، وحشية و دموية التاريخ البشري و الأمثلة عن الكتب التاريخية التي وصفت بشاعة الحروب الملطخة بالدم و الدمار و غبار الخراب و الجوع و الحرمان و القسوة موجودة رغم ندرتها نستطيع أن نذكر منها المخطوطات التي اهتمت باخبار تاريخ الشركس المسلمين الذي ظل مخفيا لعقود بل لأجيال، فهذا الشعب ذاق طعم الحروب و الدمار وتم تهجيرهم و إبادتهم من قبل روسيا القيصرية طيلة مئة و أربعة و خمسين عاما، فلولا الأدب لما عرف الإنسان المعاصر مثل هذه المظلمة، أو غيرها من المعارك الطاحنة التي دفع ثمنها الآلاف من المدنيين الذين لا حول لهم و لا قوة خسروا أراضيهم و أعراضهم و عائلاتهم مثل الحربين العالميتين التي راح ضحيتهما ملايين من القتلى و الجرحى و تشريد آلاف العائلات و تدمير البنى التحتية و تم إغتصاب ملايين النساء من بينهن مليون إمرأة ألمانية من قبل الجنود السوفيات و لم يتم ذكر ذلك إلا في مذكرات ضابط روسي.كما أن الأدب لم يكتف بإضهار مرارة الكر و الفر فحسب بل كشف عن ممارسات سبقت الحروب و أدت إلى اندلاعها، ممارسات سياسية قذرة فيها قمع لحق الشعوب و تفرد بالسلطة و تأليه للزعماء و القادة و انتقد الأدب أنظمة تفصل بين الشعب الواحد و تميز بعضهم عن بعض، أنظمة تهمشهم و تحتقرهم، أنظمة انتهجت سياسة التجويع و التركيع. دافع الأدباء عن شعوبهم ضد هؤلاء الساسة المتجبرين، ضد المستعمر و ضد كل شكل من أشكال الإقصاء و القمع و القهر و التعسف و في حوزتهم كلماتهم و حفنة أوراق منهم شعراء أمثال أحمد مطر أبو القاسم الشابي و سميح قاسم و هم كانوا لسان حال شعوبهم و أوطانهم و مرآة واقعهم، و كتاب أمثال شين كونغوين و جورج أورويل ( صاحب رواية 1984) و لا ننسى الكتاب الروس كدوستويفسكي الذي تحدث في كل كتاباته عن هموم الناس و آلامهم في حقبة معينة. كما لا ننسى الكتابة و الباحثة هيلين إيليربي التي اتخذت موقف على الحرية البشرية و الكرامة الإنسانية في كتابها (الجانب المظلم في التاريخ المسيحي) الذي تحدثت فيه عن القضايا الخاصة بالتاريخ المسيحي و ما أطلقت عليه بذور الطغيان و جرائم الكنيسة و محاولاتها لتحديد علاقة الناس بالإله... وهذا غيض من فيض فقط.
و اضطلعت الكتب كذلك بدورها العملي التنويري منذ عصور التخلف و الجهالة و نبذ العلم لاعتباره حينها معاداة للإله أو ضرب من ضروب الشعوذة و السحر أو هرطقة و جنون ،فمنذ القدم جاهد العلماء على نشر معارفهم و اكتشافاتهم و نظرياتهم فيما يخص الإنسان و بيئته و كل ما يتعلف بوجوده على الأرض و طرحوا تساؤلاتهم عم الكون و مداه. كمثال نذكر السير اسحق نيوتن، عالم الفلك نيكولاس كوبرنيكوس الذي صاغ نظرية مركزية الشمس و كون الأرض جرما يدور في فلكها. كذلك تجب الإشارة إلى العالم و الفيلسوف ابن رشد واضع كتاب البرهان و له عديد التلاخيص (كتاب ما بعد الطبيعة، كتاب النفس، كتاب القياس) فعلى ضوء ما سبق ذكره مثل الأدب ملاذا للثوار و المتمردين و العلماء و السياسيين، على حد سواء، كي ينشروا أفكارهم كي يكشفوا و يعبروا لتصل أفكارهم إلى عقول قد تستطيع تغييرها و توجيهها، قد تستطيع قيادتها نحو عوالم أخرى و فتح بصيرتها على حقائق و مساعدتها على ايجاد طريق البحث عن الحرية و تعليمها عدم الرضوخ للذل و الاستعباد و القمع إذن فالأدب مثله مثل منارة يهتدي بها كل ضال و كل باحث عن الحقيقة.
لكن لا يظن القارئ لهذا المقال أنه تعداد لمزايا الكتب فكما سبق و ذكرت أن العلاقة التي نشرحها بين الأدب و التاريخ صراع له أسبابه و تم شرحها و له نتائجه وهي في مجملها وصمة عار.
فالتاريخ أعلن كراهيته للأدب فحاول تزييفه و أنقص من مصداقيته في وصف بشاعة الحروب و أضاف المغالطات فشوه أطراف و لمّع أخرى و قدسها و مجّد أعمال جماعات و برّر أخطائها ،أيضا تم تزوير إحصائيات و التلاعب بها بهدف تقليل أعداد القتلى أو الخسائر و زيادتها حسب الحاجة إلى ذلك، فالتاريخ يكتبه المنتصر فيغير تفاصيله حسب رغبته; ففي ال 28 من شهر مايو لسنة 2017 أعلنت وزارة شؤون الإعلام المصرية مصادرتها لعدد من الكتب لاحتوائها على مغالطات تاريخية في مضمونها، و هذا ثمن غال لتدفعه البشرية فعندما تتم سرقة جزء من ماضينا نحن نفقد جزء من هويتنا.
لكن ذلك لا يعادل "فضيحة" حرق الكتب و إخفائها و تدميرها أو اغراقها، و تاريخنا يعج بمثل هذه الأحداث الأليمة يمكن أن نذكر حرق كتب ابن رشد ( وهي تعادل خمسين كتابا) في زمن الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور و هي خسارة عظمى للعرب و نقطة سوداء في تاريخهم لا يمكن محوها، كذلك يذكر لنا التاريخ إغراق المغول لأكثر من 300 ألف كتاب في التراث الإسلامي والسير و التراجم و الكيمياء و الفلسفة و الرياضيات من مكتبة بيت الحكمة البغدادي في نهر دجلة ، مكتبة سراييفو مكتبة ،المكتبة الوطنية في صربيا، مكتبة القسطنطينية و هي آخر المكتبات الكبيرة بالعالم القديم مع بداية الحكم المسيحي، و فقدت المكتبة 120 ألف مخطوطة بعدما كانت حافظا للمعرفة القديمة لليونان و الإغريق لأكثر من 1000 عام. لكن التاريخ لم يكتف بحرق الكتب و "دفنها" فقط بل منع نشرها و حرم قراءتها فكتاب 1984 الذي سبقت الإشارة إليه تم منعه لمدة طويلة في الو. م. أ و الاتحاد السوفياتي أما كتاب أعمال منوعة لشين كونغوين فلاقى مهاجمة شرسة من الشيوعيين و القوميين و حظر نشره في تايوان و الصين و دمرت آلات الطباعة و النسخ الخاصة بالرواية.
تمت محاصرة الأدباء المنادين بالعدالة و الحرية و مضايقتهم و نفيهم و اعتقالهم كالشاعر سليط اللسان حاد القلم أحمد مطر و الشاعر سميح قاسم الذي سجن أكثر من مرة وهُدّد بالقتل... و حُوكِموا في الكنائس فمن منّا لم يسمع عن محاكمة غاليلو الذي دافع عن أفكار نيكولاس كوبرنيك و جملته الشهيرة (لكنها تدور)... فخلاصة القول أن التاريخ البشري زاخر بمعاركه ضد الكلمة الحرة و القلم الصادق، لكن ليس على ذلك أن يثنينا و لو للحظة عن البحث عن ماضينا.
تعليقات
إرسال تعليق